الرئيسية مقالات متنوعة نحن والتقليد غير العقلاني

نحن والتقليد غير العقلاني | منصة تدريب اون لاين

نحن والتقليد غير العقلاني


2022-03-11

بقلم: الدكتور زكريا خنجي

 

يروى أن الكاتب الفرنسي (فرانسوا رابليه) قص حكاية رجل يدعى (بانورج)، وهذا الرجل كان في رحلة بحريّة على متن سفينة، وكان على السفينة نفسها تاجر أغنام يدعى (دندونو) ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها، في الضفة الأخرى.

وكان (دندونو) تاجرًا جشعًا لا يعرف معنى الرحمة، ووصفه الأديب رابليه بأنه يمثل أسوأ ما في ذلك العصر وهو غياب الإنسانية. وتصادف أن وقع شجار على سطح المركب بين (بانورج) والتاجر(دندونو)، صمم على أثره (بانورج) أن ينتقم من التاجر الجشع، فقرّر شراء الخروف الأكبر من التاجر بسعر عال وسط سعادة دوندونو بالصفقة الرابحة، وذهول وتساؤل الركاب الآخرين، أبعد كل هذا الشجار يقوم بشراء الخروف بثمن عال ؟

وفي مشهد غريب مسك (بانورج) بقائد الخراف من قرنيه وجره بقوة إلى طرف السفينة ثم ألقى به إلى البحر، وهنا أتت المفاجأة، إذ قامت واحدة من الخرفان وتبعت خطى الخروف القائد الغريق ليلقى نفسه في البحر ويلقي مصيره، فلحقه الثاني فالثالث فالرابع، وذلك وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في طابور مهيب لتمارس نفس تلك الطقوس وتؤدي دورها في القفز في كل الاتجاهات.

جن جنون تاجر الأغنام (دندونو) وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء، ولكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل، فقد كان إيمان الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم.

وبدافع قوي من الجشع اندفع (دندونو) للإمساك بآخر الخرفان الأحياء آملاً في إنقاذه من مصيره المحتوم، إلّا أن الخروف المؤمن كان مصرًا على الانسياق وراء الخرفان، فكان أنْ سقط كلاهما في الماء ليموتا معًا غرقًا.

وتنتهي قصة الأديب عند هذا الحد، وعلى ذلك أطلق تعبير (خرفان بانورج) باللغة الفرنسية على الجماعات التي تنساق بلا وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين، وهذا النوع من التقليد الممقوت.

ولمصطلح (التقليد) معان كثيرة في اللغة العربية، بعضها يعني التقليد الإيجابي والمفيد كالتقليد في بعض السلوكيات والأفكار والقيم المتوارثة، وهناك أيضًا تقليد مقيت وسلبي وهذا ما نريد أن نوضحه، فالتقليد في المعجم الوسيط هو: المحاكاة والاتباع من غير تفكير، فالمقلد في كثير من حالاته يحاكي من يقلده، ويفعل مثل فعله من غير تفكير ولا نظر ولا تأمل ولا إدراك لما يتبعه.

وهذا النوع المقيت من التقليد هو الذي يحدث اليوم أمام أعيننا، وفي كل أوطاننا العربية، ونعيشه بكل جوارحنا ووجداننا، وهو عادة يحدث عندما يكون لدينا طرفان، قوي وآخر ضعيف، فالضعيف يقلد ويقلد حتى آخر رمق، اعتقادًا أن ما يفعله القوي هو الصحيح، وهنا تلعب موازين القوة التي تعاضدها اللعب السياسي والاقتصادي والفكري، والمثير في الموضوع أن القوى يعرف أن هذا الضعيف يقلده لذلك يحاول بكل ما لديه من إمكانيات أن يُظهر أن السيئ جيد، وأن الجيد لا يستحق بلوغه، لأن بلوغه يستغرق من عمر الإنسان الكثير وكذلك الكثير من الإمكانيات التي ليس من المفروض أن تذهب سدى، إذ إن القوي سيمنح الضعيف بعض الإمكانيات البسيطة ليتوهم الضعيف أنه قد امتلك الكثير، فلا يسعى لبلوغ التطور والرقي، لماذا التعب والجهد وبذل المال والعمر، إن كنا نستطيع أن نمتلك كل ما نريد لنجعل حياتنا رغيدة ؟ وهذا حال الضعيف الذي يبحث عن الأمور السهلة.

بهذا المنطق وبهذا الفكر نربي أولادنا ونعلمهم في المدارس والجامعات ليسيروا خلف الغرب كخراف بانورج، من غير تفكير وربما من غير إرادة.

يقول مالك بن نبي عن هذه النوعيات من البشر الذين نحن نربيهم أنهم أنصاف بشر: "فالإنسان النصف هو الشديد الإلحاح بطلب حقوقه ولكنه لا يقوم بالحد الأدنى من واجباته، أو من ثقافة المتاح المتوافرة بين يديه. يذهب للمدرسة ليمضي الساعات فقط وهمه الأكبر الحصول على تلخيص أستاذه أو المادة المطلوبة للامتحان من دون أن يكون هدفه التعلم. يذهب للعمل ويقضي ساعاته بأي طريقة المهم بالنهاية أن ينقضي الوقت ويعود إلى حياته ويحصل على معاشه. لا يدرس كطالب ولا يعمل كموظف ولا يبدع في معمل ولا يبتكر في متجر ولا ينجز في مشروع، هو باستمرار إنسان النصف".

ويمكن أن نلاحظ أن الشرق والغرب بجميع أطيافهم يجتمعون ليظل الإنسان العربي في هذه الخانة وهذه الزاوية، زاوية (إنسان النصف)، إنسان من غير همة ولا نشاط، إنسان يعيش لحظته ومتعته الآنية فقط، إنسان من غير طموح ولا فكر ولا حتى رغبة في الاستمرار، ناهيك إن اجتمع كل هذا مع التقليد الأعمى في توافه الأمور. فنحن نقلد الغرب في تسريحات الشعر، والملابس، والأمور الحياتية السطحية جدًا ولا نقلده في احتضان المفكرين والعلماء، ولا نقلده في إنشاء المراكز البحثية والفكرية، ولا نقلده في احتضان المبدعين والمبتكرين ولا نقلده في تطوير المناهج المدرسية والجامعية ولا نقلده في إنشاء المصانع والمنشآت التي يرتقي من خلالها الإنسان.

ففي وطني العربي؛ يحترم الفنان ويلقب بالنجم ويعيش في قصور ويُستقبل في المطارات والأسواق كأفضل ما يكون، أما المفكر فإنه يعيش مُنعزلاً يبحث في الكثير من الأوقات عن سقف يأويه ولقمة تسد جوعه، في الوطن العربي نقيم الحفلات بملايين الدنانير غير مكترثين بأي شيء ونطلق عليها ثقافة وفي نفس الوقت يبحث المفكر والمثقف الحقيقي عن بضع دنانير لطبع مؤلفه الذي وضع فيه عصارة فكره فلا يجد، في وطننا العربي يمجد أبطال وسائل الإعلام الاجتماعي، فحينما ينتجون دعاية تجارية ربما لا تستغرق من وقتهم دقائق أو بضع ساعات فإنهم يوقعون عقودًا بأرقام خيالية وفي الوقت نفسه فإن المفكر يبحث عن مُنتج أو ناشر ليطبع منتجه في كل الدول العربية فلا يجد، بل ربما تغلق أمامه الأبواب، فإن وجد فإنه يُستغل أبشع استغلال، فلا توجد أنظمة تحافظ على حقوقه ولا قوانين تنظم كل تلك العمليات.

في وطننا العربي يركب التافهون أفخم السيارات ويجلسون في الصفوف الأمامية في الطائرات والعديد منهم يمتلك طائرته الخاصة، أما المفكر العربي فيهاجر من وطنه حتى يتمكن من العيش.

أصبح الإنسان العربي (النص إنسان، المقلد من غير إدراك) يبحث عن الموضة، يبحث عن الرفاهية الرخيصة، يبحث عن التوافه، فيقلدها أو يسعى بكل جهد أن يسربها للوطن العربي من أجل أن يقود القطيع، كما حدث في العديد من البرامج التلفزيونية التي تبحث عن المواهب الرخيصة وخاصة موهبة الغناء وكأن الذي ينقصنها في الوطن العربي المزيد من المطربين والمطربات.

وفي الوقت نفسه نغض الطرف عن البحث عن أسباب التطور والحضارة والفكر، فماذا اخترع شباب العالم العربي خلال المائة سنة الماضية ؟ ماذا أضافوا لرصيد البشرية من حضارة وفكر وتكنولوجيا ؟ لماذا لا تقوم التلفزيونات العربية بتقديم برامج للبحث عن المواهب العلمية أو الفكرية أو الثقافية، بدلاً من التركيز على الغناء والرقص وما إلى ذلك ؟ هل هكذا تتطور الأوطان ؟  

الشاب العربي يعرف عن لاعبي الغرب والممثلين والراقصين أكثر مما يعرف عن المفكرين والمبدعين العرب، ففي دورة تدريبية ونحن نتحدث في موضوع تطرق بنا الحديث عن التأليف والقراءة فجاء ذكر الأديبين مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وهؤلاء الأفذاذ العباقرة، فضحك الحضور وقالوا: "أنت تستهزئ بنا، من هؤلاء فنحن لا نعرفهم ؟" هكذا بكل صراحة، وعندما سألتهم عن بعض من ممثلين ولاعبين في الغرب والشرق سردوا لي تاريخ حياتهم وأفلامهم وكل شيء عنهم، والأغرب من ذلك إن نصف حديثهم لا بد أن ينطق باللغة الإنجليزية أو على أقل تقدير يطلق مصطلح من هنا ومصطلح من هناك، وعجبي.

ومن الطبيعي ألا نعمم هذه الظواهر، فهناك من الشباب العربي، المبدع والمفكر والراغب في السير في طريق الحضارة والفكر والثقافة، الرافض أن يكون تابعًا، فيقاوم كل تلك المغريات، إلا أنها مجهودات فردية وعادة ما تصادف بعراقيل كثيرة، والقوي منهم من يتمكن من الوقوف، والعديد منهم من يتساقط في الطريق.

ولكن حتى لا نضع إخفاقاتنا على شماعة الآخرين، فإننا كعرب نحتاج إلى بوصلة لأولوياتنا، ماذا نريد ؟ وكيف نحقق ما نريد ؟ العديد من دولنا العربية لا يملك الخطة الاستراتيجية التي تؤهله للتطور وبلوغ الفكر الحضاري، فماذا يمكن أن يفعل الشباب في ظل هذه المتاهات ؟

نحتاج إلى إعادة احتضان الشباب، نحتاج إلى إعادة احتضان المفكرين والمثقفين والعلماء، نحتاج إلى إعادة احتضان القدوات، نحتاج أن نعيد كتابة مناهجنا الدراسية والحياتية، نحتاج إلى الكثير، ولكن لا بد من القيام بعمل، فإن بقينا هكذا فإنه من الصعب أن نغدو مؤثرين، لذلك سنبقى دائمًا من الذين يقودهم التقليد الأعمى على الرغم من إرادتهم، فنتحرك من غير فكر ولا رغبة ولا هدى، ولكن المهم أن نتحرك، وهذا هو التقليد الأعمى وأنصاف البشر.

وربما أختم كلامي هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال "لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلَكم، شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ تبعتُمُوهم"، رواه البخاري. 


تواصل معنا


452407