بقلم: الدكتور زكريا الخنجي
ما أن يصدر قرار بتعين فلان مسؤولاً لدائرة أو مؤسسة، فإنه يتحول من إنسان موظف عادي وبسيط إلى إنسان آخر، إلى إنسان يفهم كل شيء، ويمكنه أن يتحدث في كل شيء، ويمكنه كذلك أن يتخذ كل القرارات بصورة أو بأخرى، ليس ذلك فحسب وإنما يجد أنه من حقه أن يغضب على هذا ويزمجر على هذا، ويصنف الناس إلى إنسان لا يفهم وإنسان لا يفهم، لأنه هو الوحيد الذي يستطيع أن يفهم كل شيء.
هذا الشخص بكل بساطة يعتقد أنه بمجرد جلوسه على كرسي المسؤول فإن كل القدرات والمهارات والمعلومات الإدارية التي كانت موجودة في الكرسي سوف تتسرب إليه فيتشبع بها، فهو بذلك يمكنه أن يدير كل شيء وكل إنسان، وهذا يحدث كثيرًا ولقد وجدناه كثيرًا في العديد من الدول العربية والأجنبية على حد سواء، ولكن في الحقيقة فإن هذا الشخص لا يمكنه أن يستمر كمسؤول إداري قائد فهو مجرد كرسي ولوائح وأنظمة فقط، فهو في الحقيقة بعيد كل البُعد عن الجوانب الإدارية والقيادية التي يجب أن يتحلى بها، لذلك فإنه لا يستطيع أن يستمر، وإن استمر فإنه سيتحول إلى مسؤول إداري نمطي وربما ديكتاتور.
ونحن في الألفية الثالثة من التاريخ فإن نمطية صورة المسؤول اختلفت كثيرًا، فقد كان المسؤول الإداري سابقًا هو المسؤول الأول والأخير عن المؤسسة أو الإدارة التي يشرف عليها، إلا أن هذه العقلية لم تعد مقبولة في هذا العصر، فنحن اليوم أمام موظف – ربما – يمكنه أن يعرف أكثر من المسؤول بل ويمكنه أن يتخذ القرار الأنسب لأي معضلة أو مشكلة إن استخدم واحدة من أنماط التفكير الإبداعي الابتكاري.
الموظف اليوم يستطيع أن يناقش ويفكر، ويطرح أفكاره بكل سهولة ويسر، وإن استشكلت عليه بعض الأمور فيمكنه أن يدخل الشبكة العنكبوتية ليجدها في ثوان، بل ويمكنه أن يبدع ويبتكر الكثير من الأمور التي قد لا يستطيع المسؤول الوصول إليها.
كل هذه الأمور تحدث أمام أعيننا، نشاهدها ونستغرب من هذه الأوضاع، ولكن هذه الأوضاع عادة ما تكون غير مريحة للمسؤول النمطي الذي لا يفكر إلا بالكرسي واللوائح والانضباط الوظيفي، والتوقيع الصباحي، والحضور والانصراف.
ويجب ألا يُفهم من طرحنا إننا لا نريده أن يفكر باللوائح والانضباط الوظيفي وما إلى ذلك، ولكن هذا جزء من مهامه إلا أن الجزء الأهم من كل ذلك هو تحقيق الاستقرار في تلك البيئة التي يقوم بإدارتها حتى تتمكن تلك المؤسسة من تقديم أفضل إنجازاتها وأكبرها للعملاء الذين يجب أن يكسبوا رضاهم، فالمؤسسات ما وُجدت إلا من أجل خدمة العملاء وكسب رضاهم والعمل من أجلهم، سواء كانت تلك المؤسسات من القطاع العام أو الخاص. فقد وجدنا أنه في القطاع العام – وللأسف – أن الكثير من الأفراد يتحول إلى إداري بحت نمطي بمجرد صدور القرار بتعيينه مسؤولاً، لدرجة أنه لا يرد على الهاتف حتى وإن كان إلى جانبه وبالقرب منه، فإنه يدعو السكرتير للرد على التلفون خوفًا من أن يكون المتصل واحدًا من المواطنين الذي يحتاجون إلى مساعدة، وهذا يحصل كثيرًا، اليوم وغدًا ودائمًا، ولقد سمعتُ العديد من التجارب في ذلك، ويكون جواب السكرتير دائمًا: "المسؤول مشغول، يمكنك أن تقول لي حاجتك لنوصلها إلى المسؤول مع رقم تلفونك وسوف يرد عليك"، وتقول كل ما يجول في نفسك، وأنت لا تدري هل يقوم السكرتير بتسجيل ما تقول أم لا يسجل، وبعد ذلك تنتهي المكالمة وتنتظر أن يرد عليك أحد من طرف المسؤول أو المؤسسة، وتنتظر وتمضي أسابيع وأنت تنتظر، ولا جواب وكأنك كنت تتحدث في الهواء، ثم تعاود الاتصال ويتم إجراء نفس المكالمة وبنفس التفاصيل، وتنتظر، ولا جواب.
لذلك فإن هذا النوع من المسؤولين سلطته تكمن في منصبه وكرسيه فقط، بعكس المسؤول الإداري الذي تكمن سلطته في شخصيته ونمطية تفكيره وعقله.
ونحن لا نتحدث هنا من فراغ، سواء كنا نتحدث عن التعامل مع الموظف أو العميل الخارجي، وإنما هذه حقائق، ولا نريد أن نحول القضية إلى قضية عاطفية ووجدانية بعيدًا عن العقل والمنطق، فقد سمعنا العديد من المسؤولين الذين يقولون وبالحرف الواحد "أنا أعمل من خلال منهجية الأبواب المغلقة"، طيب يا سيدي إن كنت تعمل بهذا المنطق فكيف تخدم الجمهور والموظفين ؟ لماذا أنت مسؤول إذن ؟ لذلك من الأفضل أن تجلس في بيتك وتخدم نفسك، فأنت لا تستحق إلا هذا.
قال لي صاحب صديقي؛ ذات مرة طرق باب مكتبي شخص كبير في السن، في الحقيقة لا أعرفه، ويبدو عليه الإعياء، فرحبت به وأجلسته، وطلبت له الماء والشاي، وأثناء ذلك قال حديثًا مؤلمًا، كل ذلك لأنه كان صاحب حاجة وموضوع وطلب يريد إنهاءه وكان يريد مقابلة المسؤول الأكبر في المؤسسة التي نعمل فيها ليشرح له الموضوع، ولكن المسؤول كان من ذلك النوع من المسؤولين الذين يعتبرون الإدارة منصبًا وكرسيًا ومشلحًا فقط، وفي نهاية كلامه قال وبكل بساطة "سوف أذهب إلى فلان وأقدم فيه شكوى"، فما كان مني إلا أن طلبت منه التريث حتى أتصرف أنا في الموضوع. يواصل صاحب صاحبي ويقول: وبالفعل ما هي إلا أيام قليلة انتهت معاناة ذلك الرجل. ولذلك بقيت أتساءل إن كان الموضوع يمكن أن يُحل خلال بضعة أيام فلماذا إذن كل هذا التعطيل ؟
ولهؤلاء نقول ما قاله الراحل الدكتور غازي القصيبي "ستدرك في وقت متأخر من الحياة، أن معظم المعارك التي خضتها لم تكن سوى أحداث هامشية أشغلتك عن حياتك الحقيقية، فاجعل هذا الإدراك مبكرًا"، ونحن يمكننا أن نعدل هذا الكلام – نوعًا ما – بأن نقول ستدرك بعد فترة من عمرك إن كل هذه المناصب التي تفتخر بها اليوم وكل الذي تتمتع به اليوم مجرد بهرجة سوف تخسرها يوم خروجك من المنصب، مهما كان منصبك. لذلك قبل أن تترك منصبك لمن سوف يأتي من بعدك حاول أن تفكر في شخصين، وهما: زميل العمل، وصاحب المصلحة الذي يقصدك لأنه محتاج إلى مساعدتك، وهو العميل، والذي يهمني هنا اليوم هو هذا العميل، فيا ترى كيف يمكننا أن نتعامل معه ؟
إليك النقاط العشر، وهي كالتالي:
هذه بعض النقاط التي نجد أنه يجب أن يستوعبها كل مسؤول يفكر أن المنصب ما خُلق إلا له، وإنما في الحقيقة فإن المنصب أسلوب ونمطية تفكير، والموضوع لم ينتهِ عند هذا الحد، ولنا لقاءات أخرى.
تواصل معنا